top of page

دولة الأشراف بني قتادة

واجتمع الخلق كأنه المحشر، ومالوا إلى باب النوبي من أبواب مدينة الخليفة، فقبلوا هنالك العتبة، وبلغ الخبر الناصر، فعفى عنهم وعن مرسلهم،  وأُنزلوا في الديار الواسعة، وأُكرموا الكرامة التي ظهرت واشتهرت، وعادوا إلى أبي عزيز بما أحبَّ، فكان بعد ذلك يقول: لعن الله أول رأي عند الغضب، ولا عدمنا عاقلاً ناصحاً يثنينا عنه.
وذكر ابن محفوظ: أن قتادة أرسل إلى الخليفة ولده راجح بن قتادة في طلب العفو، وكلامه يقتضي أن ذلك وقع بإثر الفتنة. وذكر ابن الأثير ما يوافق ذلك، وما ذكره ابن سعيد، يقتضي أن ذلك بعد سنةٍ من الفتنة والله أعلم.
وقد ذكر قتادة جماعة من العلماء في كتبهم، وذكروا ما فيه من الأوصاف المحمودة والمذمومة، مع غير ذلك من خبره، فنذكر ما ذكروه لما فيه من الفائدة.
قال المنذري في التكملة: كان مهيباً (وقوراً) قويّ النفس (شجاعاً) مقداماً فاضلاً، وله شعر. قال: وتولَّى إمرة مكة مدة، رأيته بها وهو يطوف بالبيت شرفه الله تعالى، ويدعو بتضرع وخشوع كثير. قال: وكان مولده بوادي ينبع، وبه نشأ. وذكر أنه قدم مصر غير مرة، وأن أخاه أبا موسى عيسى بن إدريس، أَملى عليه نسبه هذا، يعني الذي ذكرناه حين قدم مصر.
وقال ابن الأثير: وكانت ولايته قد اتسعت، من حدود اليمن إلى المدينة النبيّ ، وله قلعة ينبع بنواحي المدينة، وكثر عسكره، واستكثر من المماليك، وخافه العرب في تلك البلاد خوفاً عظيماً. وكان في أول أمره لما ملك مكة حرسها الله تعالى، حسن السيرة، أزال عنها العبيد المفسدين، وحمى البلاد، وأحسن إلى الحجاج وأكرمهم، وجدد المكوس بمكة، وفعل أفعالاً شنيعة، ونهب الحاجّ في بعض السنين كما ذكرنا.
وقال ابن سعيد، بعد أن ذكر وفاته وشيئاً من حال أجداده: وكان أبو عزيز أدهى وأشهر من مَلَك مكة منهم، وكان يخطب للخليفة الناصر، ثم يخطب لنفسه بالأمير المنصور، ودام ملكه نحو سبع وعشرين سنة([156])، وكان قد ابتاع المماليك وصيرهم جنداً يركبون بركوبه، ويقفون إذا جلس على رأسه، وأدخل في الحجاز من ذلك ما لم يعهده العرب وهابته، وكان متى قصد منهم فريقاً، أمر فيهم وهابته، وكان متى قصد منهم فريقاً، أمر فيهم بالسِّهام، فأطاعته التهائم والنجود، وصار له صيتٌ في العرب لم يكن لغيره، وكانت وراثته الملك عن مكثر بن قاسم بن فليتة الذي ورثه عن آبائه المعروفين بالهواشم، ولم يكن أبو عزيز من الهواشم، إلا من جهة النساء، وظهر في مدة مكثر، فورث ملكه، واستقام أمره، ثم استقام الأمر في عقبه إلى الآن. قال: وكان أبو عزيز في أول أمره، حسن السيرة، صافي السريرة، فلما وثب على شبيهه وابن عمه، الرجل الذي توهم أنه من العراق وقتله، انقلبت أحواله، وصار مبغضاً في العراقيين، وفسدت نيته على الخليفة الناصر، وساءت معاملته للحجاج، وأكثر المكوس والتغريم في مكة، حتى ضج الناس، وارتفعت فيه الأيدي بالدعاء، فقلته الله تعالى على يد ابنه حسن بن قتادة. ثم قال ابن سعيد: وكان أبو عزيز، أديباً شاعراً -وقد تقدّم شعره الذي قاله، عندما حاول الإمام الناصر وصوله إلى بغداد- قال: ولما قتلت العرب في الركب العراقي، حين أسلمه أميره المعروف بوجه السبع وفرّ إلى مصر بسبب عداوة جرت بينه وبين الوزير العلوي، كتب ابن زياد عن الديوان العزيز: إلى أبي عزيز، وغير خَفيٍّ عن سمعك، وإن خفي عن بصرك،ـ فيك إلا جاوره([157]) في آرامٍ بكل ريم، وغشيان حرب بين الحرمين، حتى عَمُّوا قلب كل محرم كالعميم. فكان جواب أبي عزيز: أما ما كان بأطراف نجد، فالعتب فيه راجع على من قرب من خدام الديوان العزيز الكاف، وأما ما ارتكبوه بين الحرمين، فهو مشترك بين الحسن والحُسين، قال: وكأنهم رأوا في هذه الكلام استخفافاً لم يحتمله الديوان العزيز، فكانت أول الوحشة حتى أظهر التوبة، وأرسل ابنه والأشراف بأكفانهم منشورة بين أيديهم وسيوفهم مجردة، وذكر وزيره النجم الزنجاني([158]) أن أبا عزيز، وقع بالفصل الذي كتب إليه من بغداد، ولم يزل هجِّيراه، إلى أن أنشده فيما نظمه
بآرامٍ فُتنتَ بكل ريم
وهم عمُّوا فؤادي بالعميمِ([159])
وفي وادي العقيق رَأَوا عقوقي
كما حطموا ضلوعي بالحطيمِ
فأتى بما لا يخفى انطباعه فيه.
ومن مختار شعره، قوله:
أيُّها المعرض الذي قوله إن 
جئت أشكو فضحتني في الأنامِ
فأرح نفسك التي قد تعيَّت
أرحْني من بث هذا الغرامِ
كان هذا يكون قبل امتزاجي
بك مزج الطلا بماء الغمامِ
ليس لي من رضاك بُدٌّ وقصدي
يومَ عيدٍ من سائر الأيامِ
وقال أبو سعيد أيضاً: قال الزنجاني: ومما يجب أن يؤرَّخ من محاسن الأمير أبي عزيز، أن شخصاً من سرو اليمن، يعرف بنابت بن قحطان، ورد برسم الحج، وكان له مال يتاجر فيه، فتطرق إليه أبو عزيز، بسبب احتوائه عليه، قال: فبينما هو يتمشَّى في الحرم، إذ سمع شخصاً يقول، وهو يطوف بالبيت: اللهم بهذا البيت المقصود، وذلك المقام المحمود، وذلك الماء المورود، وذاك المزار المشهود، إلا ما أنصفتني ممن ظلمني، وأحوجت إلى غيرك، من إلى الناس أحوجني، وأريته بعد حلمك أخذك الأليم الشديد، ثم أصليته نارك، وما هي من الظالمين ببعيد. فارتاع أبو عزيز، ثم حمله طبعه وعادته، على أن وكل به من يعنفه، ويحمله إلى السجن بعنف، وانصرف إلى منزله، وكان له جارية حبشية، نشأت بالمدينة، فقالت: يا أمير حرم الله، إن لك الليلة لشأناً، فأخبرها بخبر الشخص، فقالت: معاذ الله يا ابن بنت رسول الله، أن تأخذك العزة بالإثم، رجل غريب قصد بيت الله، واستجار بحرم الله، تظلمه أولاً في ماله، ثم تظلمه آخراً في نفسه، أين عزبت عنك المكارم الهاشمية والمراح النبوية، غير هذا كلامها في خاطره، وأمر بإحضار الرجل، فلما حضر، قال له: اجعلني في حلٍّ، قال: ولم؟ قال: لأني ابن بنت رسول الله، فقال: لو كنت ابن بنت رسول الله، ما فعلت الذي فعلت، حين ولاَّك الله أمر عباده وبلاده، فاستعذر أبو عزيز وقال: قد تُبت إلى الله، وصدقتن عليك مالك، فقال الرجل: نعم، الآن أنت ابن بنت رسول الله ، وأنا فقد تصدقت بجميع ذلك المال، شكراً لله تعالى على أن أعتق من العار والنار، شخصاً يعتزي إلى ذلك النسب الكريم. فقال أبو عزيز: الحمد لله على كل حال، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم استدعى شاهدين ونص عليهما الحكاية، ثم قال: فاشهدوا أني قد أعتقت هذه الجارية، ووهبت لها من المال كذا وكذا، فإن أراد هذا اليمني أن يتزوجها، فعلي صداقها عنه، وما يتجهزان به إلى بلاده، وما يعيشان به هناك في نعمةٍ ما شاء الله، فقال اليمني: قد قبلت ذلك، ولم ينفصلا إلى بلاده إلا بها انتهى.
وقال أبو شامة في أخبار سنة سبع عشرة وستمائة: وفيها (في جمادى الأولى) مات بمكة أبو عزيز قتادة بن إدريس أمير مكة، الشريف الحسني الزَّبدي، كان عادلاً منصفاً، نقمة على عبيد مكة والمفسدين، والحاجّ في أيامه مطمئنون، آمنون على أنفسهم وأموالهم. وكان شيخاً مهيباً طوالاً، وما كان يلتفت إلى أحدٍ من خلق الله، ولا وطئ بساطاً لخليفةٍ ولا غيره، وكان يُحمل إليه في كل سنة من بغداد، الخلع والذهب، وهو في داره (بمكة)، وكان يقول: أنا أحق بالخلافة (من الناصر لدين الله) ولم يرتكب كبيرة على ما قيل: وكان في زمانه يؤذن في الحرم «بحيّ على خير العمل»، على مذهب الزيدية، وكتب إليه الخليفة يستدعيه ويقول: أنت ابن العم والصاحب، وقد بلغني شهامتك وحفظك للحاجّ، وعدلك وشرف نفسك، وعفتك ونزاهتك، وقد أحببتُ أن أراك وأشاهدك، وأحسن إليك، فكتب إليه.
ولي كَفُّ ضرغام..
الأبيات الأربعة([160]).
إلا أنّ فيما ذكره أبو شامة فيها مخالفة لما سبق، في لفظياتٍ يسيرة، منها أنه قال
ولي كف ضرغام أذل ببطشها
ومنها:
أأجعلها تحت الرحى.
ومنها
وما أنا إلا المسك في كل بقعة
يضوع وأما عندكم فيضيعُ
ففي هذا البيت، مخالفة لما سبق في ثلاث لفظات، والمعنى في ذلك كله متقارب.
وذكر ابن الجوزي في كتاب «الأذكياء» ما يقتضي أن بعض هذه الأبيات لغير قتادة، لأنه قال: كان لأحمد بن الخصيب، وكيل له في ضياعه، فرفع إليه عنه جناية، فعزم على القبض عليه، والإساءة إليه فهرب، فكتب إليه أحمد يؤمنه ويحلف له على بطلان ما اتصل إليه، ويأمره بالرجوع إلى عمله، فكتب إليه
أنا لك يا ذا سامعٌ ومطيعُ
وإني لما تهوى إليه سريعُ
ولكن لي كفّا أعيش ببطشها
فما أشتري إلا بها وأبيعُ
أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي
خلاصاً لها إني إذاً لرقيعُ
ورأيت من ينسب هذه الأبيات لأبي سعد ابن قتادة، واعتمد في ذلك على ورقةٍ رأيتها معه: أنّ أبا سعد([161]) علي بن قتادة، توجه إلى العراق، فلما أشرف على نخيل بغداد أو غيرها من البلاد -الشك مني- رجع وقال هذه الأبيات، ولا دلالة في ذلك، لاحتمال أن يكون أبو سعد، قالها استشهاداً، والله أعلم.
ولم أرَها معزوة لأبي سعد، إلاّ في هذه الورقة، وقد عزاها ابن سعيد وأبو شامة وغيرهما، لقتادة كما ذكرنا، وفي ذلك النظر الذي ذكرناه من كلام ابن الجوزي.
وذكر المنذري: أن قتادة توفي في آخر جمادى الآخرة، من سنة سبع عشرة وستمائة بمكة. وذكر وفاته في هذه السنة: أبو شامة والذهبي، وابن كثير، وقالوا: إنه مات في جمادى الأولى.
وذكر ابن الأثير في «الكامل»: أنه توفي سنة ثمان عشرة وستمائة، في جمادى الآخرة، قال: وكان عمره نحواً من تسعين سنة.
وقد سبق في ترجمة ابنه حسن بن قتادة، أن الملك المسعود صاحب اليمن، لما مَلَك مكة بعد غَلَبِه لحسن بن قتادة أمر بنبش قبر قتادة وإحراقه، فوجدوا في القبر تابوتاً ليس فيه شيء، فعرف الناس بذلك، أن حسناً قتل أباه، ودفن التابوت في قبره، ليخفي أمره، ويقال: إن سبب قتل حسن بن قتادة لأبيه، أنَّ أباه قتادة، توعَّده بالقتل، لما بلغه أنه قتل عمه، بعد أن ندبه أبوه بجيش إلى المدينة مع ابنه حسن، وبلغ ذلك حسناً، فدخل على أبيه بعد عوده من المدينة، فبالغ أبوه في ذمّه وتهديده، فوثب إليه حسن فخنقه لوقته. هذا معنى ما ذكره ابن الأثير، في سبب قتل حسن ابن قتادة لأبيه، وصورة قتله.
ونقل ابن سعيد المغربي، عن سليمان بن الزنجاني([162])، وزير قتادة، أن أخا حسن بن قتادة وأقاربه، يزعمون أن حسن قتل أباه خنقاً، واستعان على ذلك بجارية كانت تخدم أباه، وعلام له في إمساك يديه، ثم قتلهما (بعد ذلك) ليخفي سبب قتله أبيه، وزعم أن قتله الغلام والجارية، لكونهما قتلا أباه.
ورأيتُ ما يقتضي، أن حسن بن قتادة قتل أباه بالسم، والله أعلم أي ذلك كان. وقيل إن قتادة بلغ تسعين سنة، فيتحصّل في سنه قولان، أحدهما: أنه تسعون، والآخر أنه نحو تسعين. وهذا القول ذكره ابن الأثير والأول ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، ويتحصّل في سنة وفاته قولان، أحدهما: أنه سنة سبع عشرة، والآخر: أنه سنة ثمان عشرة وستمائة. ويتحصل في شهر وفاته قولان، أحدهما: إنه جمادى الأولى، والآخر: أنه جمادى الآخرة، من سنة سبع عشرة. ويتحصّل في صفة قتله قولان، أحدهما: أنه خنق، والآخر: أنه سمَّ، والله أعلم بالصواب.
وكان لقتادة من الولد: حسن، الذي وليَ إمرة مكة بعده، وراجح، وهو الأكبر الذي كان ينازع حسن في الإمرة، وعليّ الأكبر، جدُّ الأشراف المعروفين بذوي علي، وعلي الأصغر، جد أبي نمي([163])، جدّ الأشراف ولاة خُلَيص([164])، ولكلٍ من أولاده هؤلاء ذرية إلى الآن.
ومما صنع قتادة أيام ولايته على مكة، أنه بَنى عليها سوراً من أعلاها على ما بلغني، وأظنه سُورها الموجود اليوم، وبلغني أن الذي بوادي نَخْلَة([165]) الشامية، فيما بين التَّنْضُب وبِشْراً، بناء على هيئة الدروب في مسيل الوادي، ليُمكسَ عنده حجاج العراق، وآثار هذا البناء فيه إلى الآن، وأنه بنى على الجبل الذي بأسفل السبط، من وادي نخلة المذكورة، مصبَّا على جبل يقال له العطشان، وآثار ذلك باقية إلى الآن، والله أعلم.
قال مؤلفه: كل ما قبل هذا منقول من كتاب الفاسي المسمّى: «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» ولعلنا نضيف إليه أية فائدة تحصل من مؤرخي مكة المتأخرين عن الفاسي، رغم أنهم كلهم عنه نقلوا.
بنو قتادة
أولاً: من تقديم ذكرهم آنفاً، فنقول
1- حسن بن قتادة، وستأتي أخباره بعده، ومن ذريته اليوم الأشراف ذوو (هجار) أشراف ينبع.
2- راجح: ستأتي أخباره، ولا تعلم اليوم له ذرية.
3- علي الأكبر: والد أبي سعد حسن، وهذا يعني أن غالب أشراف الحجاز اليوم من ذريته، لأن كل من حكم الحجاز بعده هم من ذرية أبي سعد، ثم أبي نمي... الخ.
4- علي الأصغر: والد الأشراف ذوي علي([166]) الذين في عهد الفاسي، وقد خفي اليوم ذكرهم، كما خفي ذكر بني عبد الكريم، أما بنو علي وبنو عبد الكريم الموجودون في يومنا هذا فهم من الأشراف ذوي بركات بن أبي نمي الثاني، والبون واسع بين العهدين.
ثانياً- فيما مر بك أن لأبي عزيز ابنين، هما
1- عزيز، وبه يكنى: وقيل هو الذي استولى على مكة لأبيه، وقيل: إنه مجرد كنية، والله أعلم.
2- حنظلة: وقيل إنه هو الذي استولى على مكة، بل جزم بذلك في (اتحاف فضلاء الزمن) وهذان ما رأينا من ذكر لهما ذرية، ولما أن ذكر عزيز قليل، فلعله لقب لحنظلة، وغريب من الفاسي أن أسقط حنظلة من أبناء أبي عزيز رغم أنه ذكره أكثر من مرة.
3- وله ابن اسمه إدريس، لم يذكره الفاسي إلا مفرداً مع أنه ملك، وسيأتي ذكره. فهؤلاء سبعة.
ثم رأيت ابن عنبة([167]) قد أتى بشيء، أما أن التقي لم يأت به أو أنه عند ابن عنبة أحسن، ولعل الفاسي لم يطلع عليه لحكم المعاصرة، ولكن ما في عمدة الطالب شوش عليه كثير من تغيير الكلمات والتطبيع وقلة وضوح المطبوع، ثم راجعت تأريخ العصامي([168]) فوجدته قد احتوى على ما قاله صاحب عمدة الطالب([169]).
قال العصامي([170]): قال صاحب عمدة الطالب: كان قتادة جباراً فتاكاً فيه قسوة وتشدد، وحزم، وكان الخليفة في زمانه الناصر العباسي، فاستدعى الناصر الشريف قتادة إلى بغداد ووعده ومناه فأجابه إلى ذلك، وسار إلى أن وصل إلى العراق [ثم إلى مشهد الفروي، فخرج أهل بغداد لتلقيه، وكان ممن خرج في غمار الناس رجل درويش معه أسد مسلسل]([171]) فلما نظر إليه الشريف قتادة تطير، وقال: ما لي ولبلد تذل فيها الأسود؟ فرجع إلى الحجاز، وكتب إلى الخليفة بقوله
بلادي ولو جارت عليّ مريفة
ولو أنني أعرى بها وأجوعُ
ولي كف ضرغام إذا ما بسطتها
بها اشتري يوم الوغى وأبيعُ
أأتركها تحت الرهان وابتغي
بها بدلاً إني إذاً لرقيعُ
وما أنا إلا المسك في غير أرضكم
أضوعُ وأما عندكم فأضيعُ
فلما وقف الناصر على هذه الأبيات، استشاط غضباً وامتلأ حنقاً وحرباً، وكتب إلى الشريف قتادة يقول
أما بعد: فإذا نزع الشتاء جلبابه، ولبس الربيع أثوابه، قاتلناكم بجنود لا قبل لكم بها، ولنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون.
فلما قرأ الكتاب الشريف قتادة ارتاع لذلك أشد ارتياع، وأرسل إلى بني عمه بني الحسين (ابن علي) بالمدينة يستنجدهم، ويسألهم المعونة، وصدَّر الكتاب بقوله.. 
بني عمنا من آل موسى وجعفر 
وآل حسين كيف صبركم عنَّا
بني عمنا إنا كأفنان دوحة
فلا تتركونا يتخذنا الفنا فنّا
إذا ما أخٌ خلى أخاه لآكلٍ
بدا بأخيه الأكل ثم بذا ثنّى
فأتته منهم رجال النجدة ذوو العدد والعدة، فلما أقبلت تلك الكتيبة الناصرية، كسرها وبدد شملها وقهرها، فلما بلغ ذلك الناصر العباسي، وإلى عليه الإنعامات الكاملة، وأقطعه الإقطاعات الطائلة.
وقال صاحب عمدة الطالب، أيضاً: ولقتادة إخوة وعمومة، وأعقب هو من (تسعة رجال) ويقال لعقبه القتادات. ولكن لم يعدد أسماء أبناء قتادة ولم يذكر منهم إلاّ حسناً وراجحاً.
أما إخوته، فلم أر من ذكر منهم إلاّ (صرخة بن إدريس([172])) وسيأتي في ترجمة حسن ابن قتادة الآتية. أما أعمامه، فلم أر من ذكر منهم إلاّ (ثعلب بن مطاعن بن عبد الكريم) وبقية النسب تقدم في قتادة، وبنو ثعلب يعرفون اليوم بالأشراف الثعالبة، ولهم قرية الغالّة، على مقربة من بلدة الليث مما يلي الشام([173]).قال مؤلفه: قد عددنا فيما تقدم سبعة من أبناء قتادة، ثم رأيت صاحب الدار الكمين ذكر لقتادة ولداً لم يذكره غيره، قال: حُميد بن أبي عزيز قتادة.. الخ.ولي مكة نيابة عن والده في سنة سبع وتسعين وخمس مائة، أو في التي بعدها أو في التي بعدها([174]).وبوجود هذا الابن الثامن تظهر صحة قول صاحب عمدة الطالب.

من كتاب \"الإستشراف على تاريخ كبار الأشراف\" للعلامة مؤرخ النسابة عاتق بن غيث البلادي

تنبيه: تم أخذ موافقة أستاذنا العلامة الشيخ عاتق بن غيث البلادي على نشر كتابه هذا في موقعنا، ومصدر هذا الكتاب موقع آل البيــت.

1- الشريف قَتَادة بن إدريس 
(527 - 617 هـ/ 1132 - 1219 م):
تقدم معك انقراض دولة الهواشم سنة (597 هـ = 1200 م)، وذلك باستيلاء قتادة بن إدريس على مكة، قيل بواسطة ابنه عزيز، وقيل بواسطة ابنه حنظلة، وقيل: بل هجم هو عليها فلم يشعروا إلاّ وهو معهم، وسنلقي ضوءاً فيما بعد على هذين الابنين (عزيز وحنظلة)، وقتادة هذا هو جد الأشراف القتاديين أو أشراف الحجاز (مجازاً) إذ أن معظم أشراف الحجاز اليوم من عقبة إلاّ بضع أسر، وظل بنوه يتوارثون أمر الحجاز إلى سنة (1344هـ)، أما إخوانهم الحسينيون فقد كانوا يستقلون بالمدينة مدداً محددة.
من هو قتادة؟ ترجم له تقي الدين صاحب العقد الثمين ترجمة ما رأيت أحداً أتى بمثلها، ولذا نقلتها مع ملاحظة
1- حذفت، اختصاراً، أشياء لا تخل بالترجمة.
2- ذيلت عليها لتعريف ما غمض على المحقق أو أخطأ فيه لعدم درايته الميدانية.
3- صححت بعض الأخطاء المطبعية أو النسخية.
4- علقت على موضوع بنيه ومن تفرع منهم.
يقول التقي: قتادة بن إدريس بن مطاعن ابن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد([127]) بن موسى([128]) بن عبد الله بن موسى([129]) بن عبد الله([130]) بن الحسن([131]) بن الحسن بن علي بن أبي طالب، يُكنى أبا عزيز الينبعي المكيّ. ويقال له: نابغة بني حسن، صاحب مكة وينبع، وغير ذلك من بلاد الحجاز.
وَلِي مكة عشرين سنة أو نحوها، على الخلاف في مبدأ ولايته بمكة، هل هو سنة سبع وتسعين وخـمسمائة، على ما ذكر الـميورقيّ([132])، نقلاً عن القاضي فخر الدين عثمان بن عبد الواحد العَسْقلاني المكي([133])، أو هو سنة ثمان وتسعين كما ذكر الذهبي في العبر، أو هو سنة تسع وتسعين، بتقديم التاء على السين، على ما ذكر ابن محفوظ، وذلك بعد ملكه لينبع، وكان هو وأهله مستوطنين نهر العلقميَّة([134]) من وادي ينبع، وصارت له على قومه الرئاسة فجمعهم وأركبهم الخيل، وحارب الأشراف بني حراب، من ولد عبد الله بن الحسن بن الحسن، وبني علي، وبني أحمد([135])، وبني إبراهيم([136])، ثم إنه استألَف بني أحمد، وبني إبراهيم، وذلك أيضاً بعد ملكه لوادي الصَّفراء، وإخراجه لبني يحيى([137]) منه، وكان سب طعمه في إمرة مكة، على ما بلغني، ما بلغه من انهماك أمرائها الهواشم بني فليته على اللهو، وتبسطّهم في الظلم، وإعراضهم عن صونها ممن يريدها بسوء، اغتراراً منهم بما هم فيه من العز والهسف([138]) لمن عارضهم في مرادهم، وإن كان ظلماً أو غيره، فتوحش عليهم لذلك خواطر جماعة من قوّادهم، ولما عرف ذلك منهم قتادة، استمالهم إليه، وسألهم المساعدة على ما يرونه من الاستيلاء على مكة، وجرَّاهُ على المسير إليها مع ما في نفسه، وقيل: إن بعض الناس، فزع إليه مستغيثاًَ به في ظلامة ظُلمها بمكة، فوعده بالنصر، وتجهّز إلى مكة في جماعة من قومه، فما شعر به أهل مكة، إلا وهو بها معهم، وولاتهم على ما هم فيه من الانهماك في اللهو، فلم يكن لهم بمقاومته طاقة، فملكها دونهم، وقيل إنه لم يأت إليها بنفسه في ابتداء ملكه لها، وإنما أرسل إليها ابنه حنظلة فملكها، وخرج منها مكثر بن عيسى بن فليتة إلى نخلة، ذكره ابن محفوظ، وذكر أن في سنة ستمائة، وصل محمد بن مكثر، وتقاتلوا عند المتكا([139])، وتمّت البلاد لقتادة، وجاء إليها بنفسه بعد ولده حنظلة.
وذكر ابن الأثير، أن في سنة إحدى وستمائة، كانت الحرب بين قتادة الحسني أمير مكة المشرفة، وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني أمير المدينة، ومع كل واحدٍ منهما جمع كثير، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكانت الحرب بذي الحليفة بالقرب من المدينة، وكان قتادة قد قصد المدينة ليحصرها ويأخذها، فلقيه سالم بعد أن قصد الحجرة الشريفة النبويّة، على ساكنها السلام، وصلى عندها ودعا، وسار فلقيه، فانهزم قتادة، إلى من مع سالم (من الأمراء)، فأفسدهم عليه، فمالوا إليه وحالفوه، فلما علم سالم ذلك، رحل عنه عائداً إلى المدينة، وعاد أمر قتادة يقوى.
وقد ذرك ابن سعيد مؤرخ المغرب والمشرق([140])، حرب قتادة وصاحب المدينة في هذه السنة، وأفاد فيه ما لم يفده ابن الأثير، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة، ونص ما ذكره قال: وفي سنة إحدى وستمائة، كانت بالحجاز، وهي من البلاد التي يُخطب فيها للعادل بن أيوب، وقعة المصارع، التي يقول فيها أبو عزيز قتادة الحسني صاحب مكة
مصارعَ آلِ المصطفى عُدْتِ مثلما
بدأتِ ولكن صِرْتِ بين الأَقاربِ
قتل فيها جماعة من الفاطميين، وكان أمرها على ما ذكره مؤرّخو الحجاز: أن أبا عزيز، هجم من مكة على المدينة النبوية، فخرج له صاحب المدينة سالم بن قاسم الحسيني، فكسره أبو عزيز، وحصره أياماً، وكان سالم في أثناء ذلك يحسن سياسة الحرب، ويستميل أصحاب أبي عزيز، إلى أن خرج عليه، وهو مغتر متهاون به، فكسره سالم وأسر جمعاً من أصحابه، وتبعه إلى مكة فحصره فيها على عدد أيام حصاره بالمدينة، وكتب إليه: يا بن العم، كسرة بكسرة، وأيام حصار بمثلها، والبادي أظلم، فإن كان أعجبكم عامكم، فعودوا ليثرب في القابل([141]).
وذكر أبو شامة شيئاً غير هذا من خبر قتادة مع أهل المدينة، لأنه قال بعد أن ذكر أن المعظم صاحب دمشق عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، حجّ في سنة إحدى عشرة وستمائة، ولما عاد إلى المدينة شكا إليه سالم من جَوْرِ قَتادة، فوعده أن يُنجده عليه، ثم قال: فجهّز جيشاً مع الناهض بن الجرخي([142]) إلى المدينة، والتقاهم سالم فأكرمهم، وقصدوا مكة، فانهزم قتادة منهم إلى البرية، ولم يقف بين أيديهم. انتهى.
وقال أبو شامة في أخبار سنة اثنتي عشرة وستمائة: ووصل الخبر من جهة الحجاز، بنزول قتادة صاحب مكة على المدينة حرسها الله تعالى، تاسع صفر، وحصرها أياماً، وقطع ثمرها جميعه، وكثيراً من نخيلها، فقاتله من فيها، وقتل جماعة من أصحابه، ورحل عنها خاسراً. وقال في أخبار هذه السنة أيضاً: وفي ثالث شعبان، سار الأمير سالم صاحب المدينة بمن استخدمه من التركمان، والمراحل إليها من المخيم السلطاني بالكسوة([143])، ثم توفي بالطريق قبل وصوله إلى المدينة، وقام ولد أخيه جَمّاز بالإمرة بعده، واجتمع أهله على طاعته، فمضى بمن كان مع عمه، لقصد قتادة صاحب مكة، فجمع قتادة عسكره وأصحابه، والتقوا بوادي الصفراء، فكانت الغلبة لعسكر المدينة، فاستولوا على عسكر قتادة قتلاًَ ونهباً، ومضى قتادة منهزماً إلى ينبُع، فتبعوه وحصروه بقلعته، وحصل لحميد بن راجب من الغنيمة، ما يزيد على مائة فرس، وهو واحد من جماعة كثيرة من العرب الكلابيين([144])، وعاد الأجناد الذين كانوا مضوا مع الأمير سالم من الشام، من التركمان وغيرهم، صحبة الناهض بن الجرخي خادم المعتمد، وفي صحبتهم كثير مما غنموه من أعمال قتادة، ومن وقعة وادي الصفراء، من نساءٍ وصبيان، وظهر فيهم أشراف حسنيون وحسينيون، فاستعيدوا منهم، وسلِّموا إلى المعروفين من أشراف دمشق، ليكلفوهم ويشاركوهم في قسمهم من وقفهم. انتهى.
وهذا الخبر يقتضي أن سالماً لم يحضر القتال الذي كان بين قتادة والعسكر، الذي أنفذه المعظم لقتال قتادة، نصرة لسالم، لموت سالم في الطريق، وأنه سار مع العسكر من دمشق إلى أن مات بالطريق، والخبر الأول يقتضي أن سالماً حضر مع العسكر قتالهم لقتادة، ويقتضي أيضاً أن سالماً لم يسر مع العسكر من دمشق، وإنما لقيهم بالمدينة أو في الطريق. وهذا الخبر نقله أبو شامة عن صاحب مرآة الزمان، وما ذكره أبو شامة أصوب مما ذكره عن صاحب المرآة، لاتحاد القصة. والله أعلم.وذكر أبو شامة([145]) سبب إنجاد المعظم لسالم على قتادة، لأنه قال لما ذكر حج المعظم: وتلقاه سالم امير المدينة وخدمه، وقدم له الخيل والهدايا، وسلم إليه مفاتيح المدينة، وفتح الأهراء([146])، وأنزله في داره، وخدمه خدمةً عظيمة، ثم سار إلى مكة، فوصلها يوم الثلاثاء سادس ذي الحجة. ثم قال أبو شامة: قال أبو المظفر سبط ابن الجَوزي: والتقاه قتادة أبو عزيز أمير مكة، وحضر في خدمته. قال أبو المظفر: وحكى لي رحمه الله -يعني المعظم- قال: قلت له -يعني قتادة-: أين ننزل؟ فأشار إلى الأبطح بسوطه، وقال: هناك. فنزلنا بالأطح، وبعث إلينا هدايا يسيرة.وذكر أبو شامة خبراًَ اتفق لقتادة وقاسم بن جماز أمير المدينة، ونص ما ذكره في أخبار سنة ثلاث عشرة وستمائة: فيها وصل الخبر بتسليم([147]) نواب الكامل الينبع، من ناب قتادة، حماية له من قاسم بن جماز صاحب المدينة، وبأن قاسم بن جماز أخذ وادي (القرى) ونخلة من قتادة([148])؛ وهو مقيم به ينتظر الحاج، حتى يقضوا مناسكهم، وينازل هو مكة بعد انفصالهم عنها.وذكر ابن محفوظ شيئاً من خبر قتادة وقاسم، لأنه قال: سنة ثلاث عشرة وستمائة، كان فيها وقعة الحميمة([149])، جاء الأمير قاسم الحسيني بعسكر من المدينة، وأغار على جدة، وخرج له صاحب مكة قتادة، والتقوا بين القصر والحميمة، وكانت الكسرة على قاسم، وكان ذلك يوم النحر في هذه السنة.هذا ما علمته من حروب قتادة مع أهل المدينة. وفي ترجمة ابنه حسن بن قتادة، أن أباه قتادة في سنة موته÷ جمع جموعاً كثيرة، وسار عن مكة إلى المدينة، ولما نزل بالفرع، سير على الجيش أخاه، وابنه حسناً لمرض عرض له، وما عرفت خبر عسكر قتادة هذا مع أهل المدينة، وكان بين قتادة صاحب مكة، وثقيف أهل الطائف، حرب ظهر فيه قتادة على ثقيف، وبلغني أنه لما ظهر على هرب منه طائفة منهم، وتحصّنوا في حصونهم، فأرسل إليهم قتادة يستدعيهم للحضور إليه، ويؤمِّنهم وتوعدَّهم بالقتل إن لم يحضروا إليه، فتشاور ثقيف في ذلك، ومال أكثرهم إلى الحضور عند قتادة، خيفة أن يهلكهم إذا ظهر عليهم، فحضروا عند قتادة، فقتلهم واستخلف على بلادهم نواباً من قبله، وعضدهم بعبيد له، فلم يبق لأهل الطائف حيلة فيقتل جماعة قتادة، وهي أنهم يدفنون سيوفهم في مجالسهم، التي جرت عادتهم بالجلوس فيها مع أصحاب قتادة، ويستدعون أصحاب قتادة للحضور إليهم، فإذا حضروا إليهم وثب كل من أهل الطائف بسيفه المدفون، على جليسه من أصحاب قتادة، فيقلته به، فلما فعلوا ذلك، استدعوا أصحاب قتادة إلى الموضع الذي دفنوا فيه سيوفهم، وأوهموهم أن استدعاءهم لهم بسبب كتاب ورد عليهم من قتادة، فحضر إليهم أصحاب قتادة بغير سلاح، لعدم مبالاتهم بأهل الطائف، لِما أوقعوا في قلوبهم من الرعب منهم، فلما اجتمع الفريقان واطمأنت بهم المجالس، وثب كل من أهل الطائف على جليسه، ففتك به، ولم يَسلم من أصحاب قتادة إلا واحد، على ما قيل، هرب ووصل إلى قتادة، وقد تخبَّل عقله لشدة ما رآه من الروع في أصحابه، وأخبر قتادة بالخبر، فلم يصدقه وظنه جن لِما رأى فيه التخبُّل. وكان حرب قتادة لهل الطائف، في سنة ثلاث عشرة وستمائة، على ما ذكر الميورقي وذكر أن في هذه الواقعة، فُقد كتاب النبي لأهل الطائف، لما نهب جيش قتادة البلاد، ونص ما ذكره الميورقي في ذلك، قال: قال لي تميم بن حمدان الثقفي العوفي: قُتل أبي رحمه الله، في نوبة قتل الشريف قتادة لمشايخ ثقيف، بدار بني يسار، من قرى الطائف، ونهب الجيش البلاد، ففقدنا الكتاب في جملة ما فقدناه، وهو كان عند أبي، لكونه كان شيخ قبيلته. قال قاضي الطائف يحيى بن عيسى: قُتل أبي لثلاث عشرة من جمادى سنة ثلاث عشرة وستمائة. انتهى.

وقال أبو المظفر: وفي عاشر محرم، وصل حُسن الحجاز، من مكة سائقاً للحاج، وأخبر بأن قتادة صاحب مكة، قتل المعروف بعبد الله الأسير، ثم وصل كتاب من مرزوق الطشتدار([150]) الأسدي، في الخامس والعشرين من المحرم، وكان حاجباً، يخبر فيه بأن قتادة قتل إمام الحنفية وإمام الشافعية بمكة، ونهب الحاج اليمنيين.
وقال أيضاً سنة ثمان وستمائة: فيها نهب الحاج العراقي، وكان حجّ بالناس من العراق، علاء الدين محمد بن ياقوت، نيابةً عن أبيه، ومعه ابن أبي فراس، يثقّفه ويدبره، وحج من الشام، الصمصام إسماعيل، أخو سِياروج النجمي على حاج دمشق، وعلى حاج القدس الشجاع علي بن سلار، وكانت ربيعة خاتون (بنت أيوب) أخت العادل في الحج، فلما كان يوم النحر (بمنى) بعد رمي الناس الجمرة وثب بعض الإسماعيلية، على رجل شريف من بني عمّ قتادة، أشبه الناس به، وظنوه إياه، كان مع أم جلال الدين، وثار عبيد مكة والأشراف، وصعدوا على الجبلين بمنى، وهلّلوا وكبّروا، وضربوا الناس بالحجارة والمَقاليع([151]) والنُشاب، ونهبوا الناس يوم العيد والليلة واليوم الثاني، وقتل من الفريقين جماعة، فقال ابن أبي فراس لمحمد ابن ياقوت: ارحلوا بنا إلى الزّاهر، إلى منزلة الشاميين، فلما حصلت الأثقال على الجمال، حَمل قتادة أمير مكة والعبيد، فأخذوا الجميع إلا القليل. وقال قتادة: ما كان المقصود إلا أنا، والله لا أبقيت من حاج العراق أحداً، وكانت ربيعة خاتون بالزاهر، ومعها ابن السلار، وأخو سياروج، وحاج الشام، فجاء محمد بن ياقوت أمير الحاج العراقي، فدخل خيمة ربيعة خاتون مستجيراً بها، ومعه خاتون أم جلال الدين، فبعثته ربيعة خاتون مع ابن السلار، إلى قتادة تقول له: ما ذنب الناس! قد قتلت القاتل، وجعلت ذلك وسيلةً إلى نهب المسلمين، واستحللت الدماء في الشهر الحرام، في الحرام، والمال، وقد عرفت من نحن، والله لئن لم تنته، لأفعلنّ، ولأفعلنّ. فجاء إليه ابن السلار، فخوَّفه وهّدده، وقال: ارجع عن هذا، وإلاَّ قَصدك الخليفة من العراق ونحن من الشام، فكفَّ عنهم، وطلب مائة ألف دينار، فجمعوا له ثلاثين ألفاً من أمير الحاج العراقي، ومن خاتون أم جلال الدين، وأقام الناس ثلاثة أيام حول خيمة ربيعة خاتون، بين قتيل وجريح ومسلوب وجائع وعُريان، وقال قتادة: ما فعل هذا إلا الخليفة، ولئن عاد قرُب أحد من بغداد إلى هنا، لأقتلن الجميع. ويقال إنه أخذ من المال والمتاع وغيره، ما قيمته ألفا ألف دينار، وأذن للناس في الدخول إلى مكة، فدخل الأصحاء الأقوياء، فطافوا وأي طواف، ومعظم الناس ما دخل، ورحلوا إلى المدينة، ودخلوا بغداد على غاية الفقر والذل والهوان، ولم ينتطح فيها عنزان. انتهى.وكلام أبي شامة، يقتضي أن العراقيين لما دخلوا للالتجاء بالحجاج الشاميين، كان الشاميون نازلين بالزهر، وكلام ابن الأثير، يقتضي أن ذلك وقع والشاميون بمنى، ثم رحلوا جميعاً إلى الزَّاهر، وهذا أشبه بالصواب.وأما قول أبي شامة: ولم ينتطح فيها عنزان، فسببه أن قتادة، أرسل إلى الخليفة ببغداد يسأله العفو، فأجيب إلى سؤاله، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى قريباً([152]).

وذكر ابن سعيد المغربي هذه الحادثة، وذكر فيها أن أصحاب قتادة، فعلوا بمن كان من الحجاج في مكة، مثل ما فعلوا فيهم بمنى، وذكر أن الأشراف قتلوا القاتل بمنى، وظنّوا أنه حشيشي([153])، وذكر ابن سعيد شيئاً مما كان بين قتادة وأهل العراق، بسبب هذه الحادثة، وأفاد في ذلك ما لم أره لغيره فنذكره، ونصّ ما ذكره في أخبار سنة تسع وستمائة: وصل من قبل الخليفة الناصر، إلى أبي عزيز الحسني صاحب مكة، مع الرَّكب العراقي، مال وخلع وكسوة البيت على العادة، ولم يظهر له الخليفة إنكاراً على ما تقدم من نهب الحاج، وجعل أمير الركب يستدرجه ويخدعه، بأنه لم يصح عند الديوان العزيز، إلا أن الشرفاء، وأتباعهم نهبوا أطراف الحاج، ولولا تلافيك أمرهم، لكان الاصطلام. وقال: يقول لك مولانا الوزير: وليس كمال الخدمة الإمامية، إلا بتقبيل العتبة، ولا عزّ الدنيا والآخرة، إلا بنيل هذه المرتبة، فقال له: أنظر في ذلك، ثم تسمع الجواب. واجتمع ببني عمه الأشراف، وعرَّفهم أن ذلك استدراج لهم وله، حتى يتمكن من الجميع، وقال: يا بني الزهراء، عزكم إلى آخر الدهر، مجاورة هذه البنية والاجتماع في بطائحها، واعتمدوا بعد اليوم، أن تعاملوا هؤلاء القوم بالشر، يوهنوكم من طريق الدنيا والآخرة، ولا يرغبوكم بالأموال والعَدد والعُدد، فإن الله قد عصمكم وعصم أرضكم بانقطاعها، وإنها لا تبلغ إلا بشق الأنفس، قال: ثم غدا أبو عزيز على أمير الركب، وقال له: اسمع الجواب، ثم أنشده ما نظمه في ذلك: ولي كفُّ ضرغام أصولُ ببطشهاوأشري بها بين الورى وأبيعُ تظلُّ ملوكُ الأرض تلثم ظهرَها وفي بطنها للمجدبين ربيعُأَأَجعلها تحت الثرى ثم أبتغي خلاصاً لها إنِّي إذاً لرقيعُوما أنا إلا المسكُ في كل بلدةٍأضوعُ وأما عندكم فأضيعُ([154])فقال له أمير الرَّكب: يا شريف، أنت ابن بنت رسول الله ، والخليفة ابن عمك، وأنا مملوك تركي، لا أعلم من الأمور التي في الكتب ما علمت، ولكني قد رأيت أن هذا من شرب العرب، الذين يسكنون البوادي، ونزعات قطّاع الطريق ومخيفي السبيل، حاش لله أن أحمل هذه الأبيات عنك إلى الديوان العزيز، فأكون قد جنيت على بيت الله، وبني بنت نبيه ، ما أُلعن عليه في الدنيا، وأُحرق بسببه في الآخرة، والله لو بلغ هذا إلى حيث أشرت، لترك كل وجهٍ، وجعل جميع الوجوه إليك حتى يفرغ منك، ما لهذا ضرورة، إنه قد خطر لك أنهم استدرجوك، لا تسر إليهم، ولا تمكن من نفسك، وقل جميلاً، وإن كان فعلك ما علمت. قال: فأصغى إليه أبو عزي، وعلم أنه رجل عاقل ناصح، ساع بخير لمرسله وللمسلمين، فقال: كثر الله في المسلمين مثلك، فما الراي عندك؟ قال: أن ترسل من أولادك من لا تهتم به إن جرى عليه ما يتوقعه، ومعاذ الله أن يجري إلا ما تحبه، وترسل معه جماعة من ذوي الأسنان والهيئات من الشرفاء، فيدخلون مدينة السلام، وفي أيديهم أكفانهم منشورة، وسيوفهم مسلولة، ويقبلون العتبة، ويتوسلون برسول الله ، وبصفح أمير المؤمنين، وسترى ما يكون من الخير([155]) لك وللناس، والله لئن لم تفعل هذا، لتركبنَّ الإثم العظيم، ويكون ما لا يخفى عنك، قال: فشكره ووجه صحبته ولده وأشياخ الشرفاء، ودخلوا بغداد على تلك الهيئة التي رسم، وهم يضجون ويبكون ويتضرعون، والناس يبكون لبكائهم،

bottom of page